في كون انقطاع النائب الخاص للإمام عليه السلام عقيدة من ضروريات مذهب الإمامية الإثني عشرية
الأمر التاسع: تفسير الكتاب الوارد من الناحية المقدّسة على الشيخ المفيد وتشرّف عدّة من أساطين الفقه والعلم بلقائه عليه السلام
لعلَّ قائل يقول: ما تفسير ما وقع من خروج كتاب ورد من الناحية المقدّسة حرسها الله ورعاها على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه)؟
وما تفسير ما شاع نقله واستفاض من تشرّف عدّة من أساطين الفقهاء والعلماء بلقائه عليه السلام، حتّى أن ثُلّة منهم نقل عنه عليه السلام بعض الأدعية المسطورة في كتب الشيعة؟
وكيف يتّفق مع ما تسالمت عليه الطائفة من انقطاع السفار، وأن (من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر) (كمال الدين ٥١٦/باب ٤٥/ ح٤٤؛ غيبه الطوسي: ٣٩٥/ ح٣٦٥؛ الاحتجاج ٢٩٧:٢) كما ورد في التوقيع الذي خرج على يد النائب الرابع.
فتفسير ذلك: أنه التبس على القائل معنى السفارة والنيابة الخاصة والوكالة والبابية مع ما ذكره من الموارد، ولنوضّح الفرق بمثال موجود في يومنا هذا.
وهو الفرق بين سفير دولة ما وبين مواطن كأحد المواطنين لتلك الدولة قد أبلغ من قبلها بإيصال رسالة ما إلى جهة معينة، فالسفير للدولة له منصب دائم من قبلها لإيصال والقيام بنيابة الدولة وتمثيلها، بخلاف ذلك المواطن الذي اتّفق أن اُمر بإيصال رسالة ما، فإنه لم ينصب لمقام معين، ولم يجعل ممثلاً دائمياً.
ومن ثَمَّ نقول: الفرق بين الباب والسفير وبين مثل المكاتبة التي تشرّف بها المفيد رضوان الله تعالى عليه هو أن السفير كالنواب الأربعة في الغيبة الصغرى هو الذي ينصب بنحو دائم كحلقة وصل بين الشيعة والإمام، ويكون على اتصال دائم بحيث يوصل من وإلى الحجة عليه السلام، وهو يأتمر في كل صغيرة وكبيرة من أعماله وإجراءاته وتنفيذه في المهام الدينية من قبل الحجة عليه السلام، وتظهر على يديه دلائل وبراهين على النيابة الخاصة من قبل الحجة عليه السلام، مع إظهار السفير سفارته لأجلاء الطائفة الإمامية، وأين هذا من مثل المكاتبة المذكورة؟
وقد تقدّم ذكر عدّة ممن كانوا يكتبون الأسئلة ويبعثون بها إلى الحجة عليه السلام عبر النواب في الغيبة الصغرى، كأبي جعفر محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري المعروف بمكاتبته للحجة عبر النواب الأربعة، ومع ذلك فلم يكن سفيراً ولا نائباً خاصاً ولا وكيلاً بالمباشرة ولا بالواسط بل كسائر الفقهاء.
وكذلك عدّة كثيرة من الفقهاء كاتبوا في الغيبة الصغرى عبر النواب الأربعة أو كتب إليهم.
منهم محمّد بن صالح (الدين ٤٨٣/باب ٤٥/ ح٢) ، وإسحاق بن يعقوب (الدين ٤٨٣/باب ٤٥/ ح٤) ، ومحمّد بن الصالح (الدين ٤٨٩/باب ٤٥/ ح١٢) ، والحسن بن الفضل اليماني (الدين ٤٩٠/باب ٤٥/ ح١٣) ، وعلي بن محمّد الشمشاطي (الدين ٤٩١/باب ٤٥/ ح١٤) ، وأبو رجاء المصري (الدين ٤٩١/باب ٤٥/ ح١٥) ، ومحمّد بن هارون (الدين ٤٩٢/باب ٤٥/ ح١٧) ، وأبو القاسم بن أبي جليس (الدين ٤٩٣/باب ٤٥/ ح١٨) ، وهارون بن موسى بن الفرات، ومحمّد بن محمّد البصري، ومحمّد بن يزداد، ومحمّد بن كشمرد (الدين ٤٩٣/باب ٤٥/ ح١٨) ، وعلي بن محمّد بن إسحاق الأشعري، وإبراهيم بن محمّد بن الفرج وغيرهم كثير جدّاً، ومع ذلك لم يكونوا وكلاء بالمباشرة ولا بالواسطة.
هذا مع أن الشيخ المفيد كتب إليه من الحجة عليه السلام لأنه أرسل كتاباً ثمّ أتاه الجواب، وكيف يتوهّم أن الشيخ المفيد يدّعي أنه سفير مع أنه نفسه رحمه الله ذكر في (الرسائل الخمس في الغيبة) (وقد تقدم نقل كلامه) انقطاع السفارة والنواب بموت النائب الرابع في الغيبة الصغرى، وذكر ذلك في كتاب الإرشاد في الفصل الذي عقده للإمام الثاني عشر عليه السلام (راجع الإرشاد ٣٤٠:٢) وفي بقية كتبه، ومع أن الشيخ المفيد نفسه ذكر عن شيخه أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه: (أن عندنا أن كل من ادّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمّس ضال مضل) (راجع كتاب الغيبه للشيخ الطوسي، تلميذ الشيخ المفيد ص ٤١٢/ ح٣٨٥) .
نعم، الشيخ المفيد كبقية الفقهاء العدول له النيابة العامة، وهي المرجعية، والتي يستقي الفقيه علمه بالأحكام الشرعية من الكتاب والأخبار المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام كما تقدّم شرح ذلك في الأمر الثالث من هذا الفصل.
هذا مع أنه يصعب الجزم بصدور هذا الكتاب من الناحية المقدسة ووروده للشيخ المفيد، وذلك لأن الشيخ الطبرسي رضي الله عنه تفرّد بذكر ذلك في كتابه (الاحتجاج) ولم يذكر طريقه وسنده إلى الشيخ المفيد.
أما تفرّده فلأن الشيخ الطوسي وهو تلميذ الشيخ المفيد ومن خواصه المقرّبين إليه لم يذكر ذلك في كتابه الرجال والفهرست عند ترجمة شيخه المفيد، مع أنه أثنى عليه بأبلغ الثناء والمدح، ولو كان مثل هذا الكتاب من الناحية المقدسة لناسب ذكره في الترجمة، لأنه أبلغ شيء في التعريف بمكانة شيخه، كما لم يذكر الشيخ الطوسي هذه الواقعة في بقية كتبه.
وكذلك الشيخ الجليل أبو العبّاس أحمد بن علي النجاشي تلميذ الشيخ المفيد لم يذكر ذلك في ترجمة شيخه في رجاله مع أنه أطرى عليه بأحسن الثناء.
وكذلك لم يعثر في كتب السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي على ذكر لهذه الواقعة، مع أن السيد يأتي بشيء من الاطراء والمدح لأستاذه الشيخ المفيد عند تصادف ذكر شيخه في كتبه.
وكذلك لم يذكر ذلك ابن الحلّي في سرائره في المستطرفات في ما استطرفه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف المفيد، حيث أتى بترجمة للمفيد في البدء فيها من المدح والثناء الجميل.
وكذلك لم يذكر ذلك العلاّمة الحلّي في كتاب الرجال عند ترجمة الشيخ المفيد مع أنه أطرى عليه بالمدح الجزيل، مع أن العلاّمة الحلّي رضي الله عنه من أعلام الطائفة في القرن السابع فهو متأخر عن الشيخ الطبرسي الذي هو من أعلام القرن السادس.
وكذلك لم يذكر ذلك تقي الدين بن داود الحلّي في كتاب الرجال المعاصر للعلاّمة الحلّي.
وكذلك لم يذكر ذلك الشيخ أبو الفتح الكراجكي تلميذ المفيد مع أنه كرّر ذكره في كتابه كنز الفوائد.
نعم، ذكر ابن شهرآشوب السروي رحمه الله في معالم العلماء: (ولقّبه بالشيخ المفيد صاحب الزمان (صلوات الله عليه)، وقد ذكرت سبب ذلك في مناقب آل أبي طالب)، ولكن لم يعثر على ذلك في كتابه المناقب، وقد ذكر المصحح الذي أشرف على طبع كتاب المناقب (٤٤٦/٤، وإلى ذلك أشار الميرزا النوري قدس سره في خاتمه المستدرك في ترجمه المفيد رضي الله عنه) : (وليعلم أن الموجود من المناقب في أحوال الأئمّة عليهم السلام إلى العسكري، ولم نعثر على أحوال الحجة عليه السلام منه، ولا نقله من تقدّمنا من سدنة الأخبار كالمجلسي قدس سره والشيخ الحر وأمثالهما، وربما يتوهّم أنه لم يوفق لذكر أحواله عليه السلام، إلاّ أنه قال في معالم العلماء في ترجمة المفيد قدس سره (أنه لقّبه بالشيخ، والظاهر أنه كتبه في جملة أحواله عليه السلام في هذا الباب سقط من هذا الكتاب).
وعلى أيّة حال فابن شهرآشوب تلميذ الشيخ الطبرسي كما ذكر هو ذلك (معالم العلماء: ٢٥) فالمظنون قويّاً أنه نقله عن الطبرسي رحمه الله.
وكذلك ما يحكى عن رسالة نهج العلوم ليحيى بن بطريق الحلّي صاحب كتاب (العمدة في عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار) المتوفى سنة ستمائة هجرية أنه ذكر التوقيعات المذكورة إلى الشيخ المفيد قدس سره، فالمظنون قويّاً أنه نقله عن ابن شهر آشوب لأنه الراوي عنه (الذريعه إلى تصانيف الشيعه ١٥/ ٣٣٤) أو نقله عن الشيخ الطبرسي قدس سره.
هذا مع أن ابن إدريس ذكر في كتاب السرائر في ما استطرفه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف الشيخ المفيد أن الذي سمّاه بهذا اللقب علي بن عيسى الرماني عندما أفحمه المفيد وكان في بداية نشوه العلمي، لا أن هذا اللقب اشتهر به في آخر عمره كما هو مقتضى تاريخ التوقيع، إلاّ أن يريد ابن شهر آشوب جرى هذا اللقب على لسانه الشريف عليه السلام وما في ذلك من المدح للمفيد (رضوان الله تعالى عليه).
وأما عدم ذكر الطريق فلأن الشيخ الطبرسي لا يروي مباشرة عن المفيد، بل لا بدَّ من الواسطة، ولم تذكر في كلامه (رفع الله مقامه).
وهو وإن ذكر في أوّل كتاب الاحتجاج حيث يقول: (ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلَّت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف).
لكن شيء من الأقسام الثلاثة غير متحقق لدينا.
أما الإجماع والاتفاق، فقد عرفت خلو كتب التراجم والرجال المصنّفة ممن هو أقرب زمناً من الشيخ الطبرسي من ذلك، ومن ذلك لا يتحقق لدينا وجود الشهرة أيضاً في تلك الأعصار (نعم، حكى صاحب لؤلؤه البحرين قدس سره: ص٣٦٧، عن أبن بطريق الحلي قدس سره في رساله نهج العلوم أن التوقيع ترويها كافه الشيعه وتتلقاها بلقبول، فلاحظ) .
وأما الموافقة للدليل العقلي، فلا دليل عقلي في البين على وقوع ذلك.
نعم، الشيخ الطبرسي لا محالة قد تحقق لديه أحدها، ولكن لم يتحقق لدينا كما عرفت، وهنا إشكال آخر ذكره السيد المحقق الخوئي قدس سره في المعجم (ج١٧: ص٢٠٩) بقوله: (هب أن الشيخ المفيد جزم بقرائن أن التوقيع صدر من الناحية المقدسة، ولكن كيف يمكننا الجزم بصدوره من تلك الناحية؟).
ووجه هذا الإشكال أن المفيد قدس سره ليس سفيراً خاصاً وباباً للحجة عليه السلام كي يجزم بما قد جزم به المفيد أنه من الناحية، إذ قد لا يحصل الجزم من تلك القرائن فيما لو علمنا بها.
وهذا بخلاف الحال في السفير والباب الخاص بالحجة عليه السلام، فإنه مقتضى سفارته حجية قوله فيما يؤدّيه عن الحجة من دون احتمال الخطأ والغفلة كما ورد في قول الإمام العسكري عليه السلام عند تنصيصه على نيابة العمري وابنه: (العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان) (الغيبه الطوسي: ٢٤٣/ ح٢٩٠) ، (فاقبلوا من عثمان (النائب الأوّل العمري) ما يقوله وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه) (الغيبه الطوسي: ٣٥٧/ ح٣١٩) .
ومن ذلك كلّه يظهر لك تفسير تشرف عدّة من أكابر العلماء والفقهاء والأتقياء بلقاء الحجة عليه السلام وسعادتهم بجمال محضره الشريف، فإن ذلك ليس يعني سفارتهم وبابيتهم وأنهم منصوبون لذلك.
بل إن ذلك نتيجة الطهارة من الذنوب ومن النزعات الشيطانية والحيوانية، إذ قد ورد في بعض الروايات [(مثل الروايه التي أخرجها الطبري في (دلائل الإمامه) من مشاهده أبن مهزيار له عليه السلام (ص٢٩٧) عند قوله عليه السلام《فما الذي أبطأ بك علينا؟》)] : أن الحاجب بيننا وبين نور مطلعه الباهر عليه أفضل صلوات الملك القادر هي ذنوبنا وسيئات أعمالنا، وقد ذكر الصدوق في إكمال الدين عدّة كثيرة ممن تشرّف بلقائه عليه السلام في الغيبة الصغرى فترة النواب الأربعة (راجع كمال الدين: ٤٣٤/ باب ٤٣ في ذكر من شاهد القائم عليه السلام ورآه وكلمه) ، ولم تكن تلك العدّة التي تشرّفت بلقائه عليه السلام سفراء ونواباً.
وأما توافق ذلك مع ما خرج من التوقيع على يد علي بن محمّد السمري النائب الرابع والأخير: (من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر) (كمال الدين: ٥١٦/ باب ٤٥/ ح٤٤) .
فلأن معنى التوقيع المبارك كما هو الراجح لدى العلماء هو ادّعاء النيابة الخاصة والسفارة، بقرينة أن التوقيع صدر قرب وفاة السمري، حيث أن في أوّله تعزية الإمام عليه السلام المؤمنين بموت السمري ما بينه وبين ستة أيام، ثمّ أمره عليه السلام بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته، إذ قد وقعت الغيبة التامة، وأنه لا ظهور حتّى يأذن الله تعالى ذكره. هذه كلّها قرائن أن سياق الكلام دالٌّ على تكذيب ادّعاء النيابة والسفارة بعد السمري رضوان الله تعالى عليه.
ونصَّ التوقيع كما ذكره الشيخ في (الغيبة: ٣٩٥/ ح٣٦٥) قال: وأخبرنا جماعة (وهم مشايخه)، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه (الصدوق)، قال: حدّثني أبو محمّد الحسين بن أحمد المكتّب (الذي ترحَّم عليه الصدوق في كمال الدين)، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفى فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري رضي الله عنه، فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري عظَّم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميّت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله _ تعالى ذكره _ وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).
وقد أنبأ عليه السلام شيعته بمجيء المدّعين الكذّابين المفترين، وقد حصل مجيئهم كرّات ومرّات ولا زال في يومنا هذا، وهذا الإنباء بالمستقبل من معجزاته عليه السلام. وواضح أن من يدّعي المشاهدة للحجة عليه السلام ليس غرضه إلاّ إظهار نفسه كوسيط وسفير للحجة عليه السلام، وهذه قرينة أخرى على أن المعنى المراد في التوقيع المبارك هو ادّعاء النيابة والسفارة.
* * *
لعلَّ قائل يقول: ما تفسير ما وقع من خروج كتاب ورد من الناحية المقدّسة حرسها الله ورعاها على الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (قدَّس الله روحه ونوَّر ضريحه)؟
وما تفسير ما شاع نقله واستفاض من تشرّف عدّة من أساطين الفقهاء والعلماء بلقائه عليه السلام، حتّى أن ثُلّة منهم نقل عنه عليه السلام بعض الأدعية المسطورة في كتب الشيعة؟
وكيف يتّفق مع ما تسالمت عليه الطائفة من انقطاع السفار، وأن (من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر) (كمال الدين ٥١٦/باب ٤٥/ ح٤٤؛ غيبه الطوسي: ٣٩٥/ ح٣٦٥؛ الاحتجاج ٢٩٧:٢) كما ورد في التوقيع الذي خرج على يد النائب الرابع.
فتفسير ذلك: أنه التبس على القائل معنى السفارة والنيابة الخاصة والوكالة والبابية مع ما ذكره من الموارد، ولنوضّح الفرق بمثال موجود في يومنا هذا.
وهو الفرق بين سفير دولة ما وبين مواطن كأحد المواطنين لتلك الدولة قد أبلغ من قبلها بإيصال رسالة ما إلى جهة معينة، فالسفير للدولة له منصب دائم من قبلها لإيصال والقيام بنيابة الدولة وتمثيلها، بخلاف ذلك المواطن الذي اتّفق أن اُمر بإيصال رسالة ما، فإنه لم ينصب لمقام معين، ولم يجعل ممثلاً دائمياً.
ومن ثَمَّ نقول: الفرق بين الباب والسفير وبين مثل المكاتبة التي تشرّف بها المفيد رضوان الله تعالى عليه هو أن السفير كالنواب الأربعة في الغيبة الصغرى هو الذي ينصب بنحو دائم كحلقة وصل بين الشيعة والإمام، ويكون على اتصال دائم بحيث يوصل من وإلى الحجة عليه السلام، وهو يأتمر في كل صغيرة وكبيرة من أعماله وإجراءاته وتنفيذه في المهام الدينية من قبل الحجة عليه السلام، وتظهر على يديه دلائل وبراهين على النيابة الخاصة من قبل الحجة عليه السلام، مع إظهار السفير سفارته لأجلاء الطائفة الإمامية، وأين هذا من مثل المكاتبة المذكورة؟
وقد تقدّم ذكر عدّة ممن كانوا يكتبون الأسئلة ويبعثون بها إلى الحجة عليه السلام عبر النواب في الغيبة الصغرى، كأبي جعفر محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري المعروف بمكاتبته للحجة عبر النواب الأربعة، ومع ذلك فلم يكن سفيراً ولا نائباً خاصاً ولا وكيلاً بالمباشرة ولا بالواسط بل كسائر الفقهاء.
وكذلك عدّة كثيرة من الفقهاء كاتبوا في الغيبة الصغرى عبر النواب الأربعة أو كتب إليهم.
منهم محمّد بن صالح (الدين ٤٨٣/باب ٤٥/ ح٢) ، وإسحاق بن يعقوب (الدين ٤٨٣/باب ٤٥/ ح٤) ، ومحمّد بن الصالح (الدين ٤٨٩/باب ٤٥/ ح١٢) ، والحسن بن الفضل اليماني (الدين ٤٩٠/باب ٤٥/ ح١٣) ، وعلي بن محمّد الشمشاطي (الدين ٤٩١/باب ٤٥/ ح١٤) ، وأبو رجاء المصري (الدين ٤٩١/باب ٤٥/ ح١٥) ، ومحمّد بن هارون (الدين ٤٩٢/باب ٤٥/ ح١٧) ، وأبو القاسم بن أبي جليس (الدين ٤٩٣/باب ٤٥/ ح١٨) ، وهارون بن موسى بن الفرات، ومحمّد بن محمّد البصري، ومحمّد بن يزداد، ومحمّد بن كشمرد (الدين ٤٩٣/باب ٤٥/ ح١٨) ، وعلي بن محمّد بن إسحاق الأشعري، وإبراهيم بن محمّد بن الفرج وغيرهم كثير جدّاً، ومع ذلك لم يكونوا وكلاء بالمباشرة ولا بالواسطة.
هذا مع أن الشيخ المفيد كتب إليه من الحجة عليه السلام لأنه أرسل كتاباً ثمّ أتاه الجواب، وكيف يتوهّم أن الشيخ المفيد يدّعي أنه سفير مع أنه نفسه رحمه الله ذكر في (الرسائل الخمس في الغيبة) (وقد تقدم نقل كلامه) انقطاع السفارة والنواب بموت النائب الرابع في الغيبة الصغرى، وذكر ذلك في كتاب الإرشاد في الفصل الذي عقده للإمام الثاني عشر عليه السلام (راجع الإرشاد ٣٤٠:٢) وفي بقية كتبه، ومع أن الشيخ المفيد نفسه ذكر عن شيخه أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه: (أن عندنا أن كل من ادّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمّس ضال مضل) (راجع كتاب الغيبه للشيخ الطوسي، تلميذ الشيخ المفيد ص ٤١٢/ ح٣٨٥) .
نعم، الشيخ المفيد كبقية الفقهاء العدول له النيابة العامة، وهي المرجعية، والتي يستقي الفقيه علمه بالأحكام الشرعية من الكتاب والأخبار المأثورة عن الرسول صلى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام كما تقدّم شرح ذلك في الأمر الثالث من هذا الفصل.
هذا مع أنه يصعب الجزم بصدور هذا الكتاب من الناحية المقدسة ووروده للشيخ المفيد، وذلك لأن الشيخ الطبرسي رضي الله عنه تفرّد بذكر ذلك في كتابه (الاحتجاج) ولم يذكر طريقه وسنده إلى الشيخ المفيد.
أما تفرّده فلأن الشيخ الطوسي وهو تلميذ الشيخ المفيد ومن خواصه المقرّبين إليه لم يذكر ذلك في كتابه الرجال والفهرست عند ترجمة شيخه المفيد، مع أنه أثنى عليه بأبلغ الثناء والمدح، ولو كان مثل هذا الكتاب من الناحية المقدسة لناسب ذكره في الترجمة، لأنه أبلغ شيء في التعريف بمكانة شيخه، كما لم يذكر الشيخ الطوسي هذه الواقعة في بقية كتبه.
وكذلك الشيخ الجليل أبو العبّاس أحمد بن علي النجاشي تلميذ الشيخ المفيد لم يذكر ذلك في ترجمة شيخه في رجاله مع أنه أطرى عليه بأحسن الثناء.
وكذلك لم يعثر في كتب السيد المرتضى علي بن الحسين الموسوي على ذكر لهذه الواقعة، مع أن السيد يأتي بشيء من الاطراء والمدح لأستاذه الشيخ المفيد عند تصادف ذكر شيخه في كتبه.
وكذلك لم يذكر ذلك ابن الحلّي في سرائره في المستطرفات في ما استطرفه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف المفيد، حيث أتى بترجمة للمفيد في البدء فيها من المدح والثناء الجميل.
وكذلك لم يذكر ذلك العلاّمة الحلّي في كتاب الرجال عند ترجمة الشيخ المفيد مع أنه أطرى عليه بالمدح الجزيل، مع أن العلاّمة الحلّي رضي الله عنه من أعلام الطائفة في القرن السابع فهو متأخر عن الشيخ الطبرسي الذي هو من أعلام القرن السادس.
وكذلك لم يذكر ذلك تقي الدين بن داود الحلّي في كتاب الرجال المعاصر للعلاّمة الحلّي.
وكذلك لم يذكر ذلك الشيخ أبو الفتح الكراجكي تلميذ المفيد مع أنه كرّر ذكره في كتابه كنز الفوائد.
نعم، ذكر ابن شهرآشوب السروي رحمه الله في معالم العلماء: (ولقّبه بالشيخ المفيد صاحب الزمان (صلوات الله عليه)، وقد ذكرت سبب ذلك في مناقب آل أبي طالب)، ولكن لم يعثر على ذلك في كتابه المناقب، وقد ذكر المصحح الذي أشرف على طبع كتاب المناقب (٤٤٦/٤، وإلى ذلك أشار الميرزا النوري قدس سره في خاتمه المستدرك في ترجمه المفيد رضي الله عنه) : (وليعلم أن الموجود من المناقب في أحوال الأئمّة عليهم السلام إلى العسكري، ولم نعثر على أحوال الحجة عليه السلام منه، ولا نقله من تقدّمنا من سدنة الأخبار كالمجلسي قدس سره والشيخ الحر وأمثالهما، وربما يتوهّم أنه لم يوفق لذكر أحواله عليه السلام، إلاّ أنه قال في معالم العلماء في ترجمة المفيد قدس سره (أنه لقّبه بالشيخ، والظاهر أنه كتبه في جملة أحواله عليه السلام في هذا الباب سقط من هذا الكتاب).
وعلى أيّة حال فابن شهرآشوب تلميذ الشيخ الطبرسي كما ذكر هو ذلك (معالم العلماء: ٢٥) فالمظنون قويّاً أنه نقله عن الطبرسي رحمه الله.
وكذلك ما يحكى عن رسالة نهج العلوم ليحيى بن بطريق الحلّي صاحب كتاب (العمدة في عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار) المتوفى سنة ستمائة هجرية أنه ذكر التوقيعات المذكورة إلى الشيخ المفيد قدس سره، فالمظنون قويّاً أنه نقله عن ابن شهر آشوب لأنه الراوي عنه (الذريعه إلى تصانيف الشيعه ١٥/ ٣٣٤) أو نقله عن الشيخ الطبرسي قدس سره.
هذا مع أن ابن إدريس ذكر في كتاب السرائر في ما استطرفه من كتاب العيون والمحاسن تصنيف الشيخ المفيد أن الذي سمّاه بهذا اللقب علي بن عيسى الرماني عندما أفحمه المفيد وكان في بداية نشوه العلمي، لا أن هذا اللقب اشتهر به في آخر عمره كما هو مقتضى تاريخ التوقيع، إلاّ أن يريد ابن شهر آشوب جرى هذا اللقب على لسانه الشريف عليه السلام وما في ذلك من المدح للمفيد (رضوان الله تعالى عليه).
وأما عدم ذكر الطريق فلأن الشيخ الطبرسي لا يروي مباشرة عن المفيد، بل لا بدَّ من الواسطة، ولم تذكر في كلامه (رفع الله مقامه).
وهو وإن ذكر في أوّل كتاب الاحتجاج حيث يقول: (ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار بإسناده إما لوجود الإجماع عليه، أو موافقته لما دلَّت العقول إليه، أو لاشتهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف).
لكن شيء من الأقسام الثلاثة غير متحقق لدينا.
أما الإجماع والاتفاق، فقد عرفت خلو كتب التراجم والرجال المصنّفة ممن هو أقرب زمناً من الشيخ الطبرسي من ذلك، ومن ذلك لا يتحقق لدينا وجود الشهرة أيضاً في تلك الأعصار (نعم، حكى صاحب لؤلؤه البحرين قدس سره: ص٣٦٧، عن أبن بطريق الحلي قدس سره في رساله نهج العلوم أن التوقيع ترويها كافه الشيعه وتتلقاها بلقبول، فلاحظ) .
وأما الموافقة للدليل العقلي، فلا دليل عقلي في البين على وقوع ذلك.
نعم، الشيخ الطبرسي لا محالة قد تحقق لديه أحدها، ولكن لم يتحقق لدينا كما عرفت، وهنا إشكال آخر ذكره السيد المحقق الخوئي قدس سره في المعجم (ج١٧: ص٢٠٩) بقوله: (هب أن الشيخ المفيد جزم بقرائن أن التوقيع صدر من الناحية المقدسة، ولكن كيف يمكننا الجزم بصدوره من تلك الناحية؟).
ووجه هذا الإشكال أن المفيد قدس سره ليس سفيراً خاصاً وباباً للحجة عليه السلام كي يجزم بما قد جزم به المفيد أنه من الناحية، إذ قد لا يحصل الجزم من تلك القرائن فيما لو علمنا بها.
وهذا بخلاف الحال في السفير والباب الخاص بالحجة عليه السلام، فإنه مقتضى سفارته حجية قوله فيما يؤدّيه عن الحجة من دون احتمال الخطأ والغفلة كما ورد في قول الإمام العسكري عليه السلام عند تنصيصه على نيابة العمري وابنه: (العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان) (الغيبه الطوسي: ٢٤٣/ ح٢٩٠) ، (فاقبلوا من عثمان (النائب الأوّل العمري) ما يقوله وانتهوا إلى أمره واقبلوا قوله فهو خليفة إمامكم والأمر إليه) (الغيبه الطوسي: ٣٥٧/ ح٣١٩) .
ومن ذلك كلّه يظهر لك تفسير تشرف عدّة من أكابر العلماء والفقهاء والأتقياء بلقاء الحجة عليه السلام وسعادتهم بجمال محضره الشريف، فإن ذلك ليس يعني سفارتهم وبابيتهم وأنهم منصوبون لذلك.
بل إن ذلك نتيجة الطهارة من الذنوب ومن النزعات الشيطانية والحيوانية، إذ قد ورد في بعض الروايات [(مثل الروايه التي أخرجها الطبري في (دلائل الإمامه) من مشاهده أبن مهزيار له عليه السلام (ص٢٩٧) عند قوله عليه السلام《فما الذي أبطأ بك علينا؟》)] : أن الحاجب بيننا وبين نور مطلعه الباهر عليه أفضل صلوات الملك القادر هي ذنوبنا وسيئات أعمالنا، وقد ذكر الصدوق في إكمال الدين عدّة كثيرة ممن تشرّف بلقائه عليه السلام في الغيبة الصغرى فترة النواب الأربعة (راجع كمال الدين: ٤٣٤/ باب ٤٣ في ذكر من شاهد القائم عليه السلام ورآه وكلمه) ، ولم تكن تلك العدّة التي تشرّفت بلقائه عليه السلام سفراء ونواباً.
وأما توافق ذلك مع ما خرج من التوقيع على يد علي بن محمّد السمري النائب الرابع والأخير: (من ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر) (كمال الدين: ٥١٦/ باب ٤٥/ ح٤٤) .
فلأن معنى التوقيع المبارك كما هو الراجح لدى العلماء هو ادّعاء النيابة الخاصة والسفارة، بقرينة أن التوقيع صدر قرب وفاة السمري، حيث أن في أوّله تعزية الإمام عليه السلام المؤمنين بموت السمري ما بينه وبين ستة أيام، ثمّ أمره عليه السلام بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته، إذ قد وقعت الغيبة التامة، وأنه لا ظهور حتّى يأذن الله تعالى ذكره. هذه كلّها قرائن أن سياق الكلام دالٌّ على تكذيب ادّعاء النيابة والسفارة بعد السمري رضوان الله تعالى عليه.
ونصَّ التوقيع كما ذكره الشيخ في (الغيبة: ٣٩٥/ ح٣٦٥) قال: وأخبرنا جماعة (وهم مشايخه)، عن أبي جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه (الصدوق)، قال: حدّثني أبو محمّد الحسين بن أحمد المكتّب (الذي ترحَّم عليه الصدوق في كمال الدين)، قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفى فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمّد السمري رضي الله عنه، فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمّد السمري عظَّم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميّت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله _ تعالى ذكره _ وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي لشيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).
وقد أنبأ عليه السلام شيعته بمجيء المدّعين الكذّابين المفترين، وقد حصل مجيئهم كرّات ومرّات ولا زال في يومنا هذا، وهذا الإنباء بالمستقبل من معجزاته عليه السلام. وواضح أن من يدّعي المشاهدة للحجة عليه السلام ليس غرضه إلاّ إظهار نفسه كوسيط وسفير للحجة عليه السلام، وهذه قرينة أخرى على أن المعنى المراد في التوقيع المبارك هو ادّعاء النيابة والسفارة.
* * *
تعليقات
إرسال تعليق
أضف تعليقاً