الحكاية اللقاء بالإمام المهدي عليه السلام
الحكاية اللقاء بالإمام المهدي عليه السلام
(قصة محمود الفارسي)
حدث السيد المعظم المبجل، بهاء الدين عليّ بن عبد الحميد الحسيني النجفي النيلي المعاصر للشهيد الأول في كتاب الغيبة عن الشيخ العالم الكامل القدوة المقرئ الحافظ، المحمود الحاج المعتمر شمس الحق والدين محمّد بن قارون قال: دعيت إلى امرأة فأتيتها وأنا أعلم أنها مؤمنة من أهل الخير والصلاح فزوّجها أهلها من محمود الفارسي المعروف بأخي بكر، ويقال له ولأقاربه بنو بكر، وأهل فارس مشهورون بشدة التسنن والنصب والعداوة لأهل الإيمان، وكان محمود هذا أشدهم في الباب، وقد وفقه الله تعالى للتشيع دون أصحابه.
فقلت لها: واعجباه كيف سمح أبوك بك؟ وجعلك مع هؤلاء النواصب؟ وكيف اتفق لزوجك مخالفة أهله حتّى يرفضهم؟
فقالت: يا أيها المقرئ إن له حكاية عجيبة إذا سمعها أهل الأدب حكموا أنها من العجب.
قلت: وما هي؟
فقالت: سله عنها سيخبرك.
قال الشيخ: فلما حضرنا عنده قلت له: يا محمود، ما الذي أخرجك عن ملة أهلك، وأدخلك مع الشيعة؟
فقال: يا شيخ لما اتضح لي الحق تبعته، اعلم أنه قد جرت عادة أهل الفرس [(الظاهر أنه بالفتح، موضع الهذيل أو البلد من بلدانهم كما في القاموس منه رحمه الله. أقول: بل هو بالضم لما سبق قبل الأسطر بقوله: ( وأهل فارس مشهورون بشده التسنن والنصب والعداوه). (الظاهر أنها بالفتح وتوجد حاليا منطقه بين بغداد وسامراء تعرف بهذا الأسم، والظاهر أنها المقصوده )] أنهم إذا سمعوا بورود القوافل عليهم، خرجوا يتلقونهم، فاتفق أنّا سمعنا بورود قافلة كبيرة، فخرجت ومعي صبيان كثيرون وأنا إذ ذاك صبي مراهق، فاجتهدنا في طلب القافلة، بجهلنا، ولم نفكر في عاقبة الأمر، وصرنا كلما انقطع منا صبي من التعب خلوه إلى الضعف، فضللنا عن الطريق، ووقعنا في واد لم نكن نعرفه، وفيه شوك، وشجر ودغل، لم نر مثله قط فأخذنا في السير حتّى عجزنا وتدلت ألسنتنا على صدورنا من العطش، فأيقنا بالموت، وسقطنا لوجوهنا.
فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض، قد نزل قريبا منا، وطرح مفرشاً لطيفاً لم نر مثله تفوح منه رائحة طيبة، فالتفتنا إليه وإذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض، وعلى رأسه عمامة لها ذؤابتان، فنزل على ذلك المفرش ثمّ قام فصلى بصاحبه، ثمّ جلس للتعقيب. فالتفت إلي وقال: يا محمود!
فقلت: بصوت ضعيف: لبيك يا سيدي.
قال: ادن مني.
فقلت: لا أستطيع [(هذا هو الظاهر، والنسخه (لم أستطع). منه رحمه الله)] لما بي من العطش والتعب.
قال: لا بأس عليك.
فلما قالها حسبت كأن قد حدث في نفسي روح متجددة، فسعيت إليه حبوا فمر (فأمر ظ) يده على وجهي وصدري ورفعها إلى حنكي فرده حتّى لصق بالحنك الأعلى ودخل لساني في فمي، وذهب ما بي، وعدت كما كنت أولا.
فقال: قم وائتني بحنظلة من هذا الحنظل.
وكان في الوادي حنظل كثير فأتيته بحنظلة كبيرة فقسمها نصفين، وناولنيها وقال: كل منها فأخذتها منه.
ولم أقدم على مخالفته وعندي (أي وعندي من العقيده والنظر أنه أمرني أن آكل الصبر) أمرني أن آكل الصبر لما أعهد من مرارة الحنظل فلما ذقتها فإذا هي أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحا من المسك شبعت ورويت.
ثمّ قال لي: ادع صاحبك.
فدعوته، فقال بلسان مكسور ضعيف: لا أقدر على الحركة.
فقال له: قم لا بأس عليك.
فأقبل إليه حبوا وفعل معه كما فعل معي ثمّ نهض ليركب، فقلنا: بالله عليك يا سيدنا إلا ما أتممت علينا نعمتك، وأوصلتنا إلى أهلنا.
فقال: لا تعجلوا وخط حولنا برمحه خطة، وذهب هو وصاحبه.
فقلت لصاحبي: قم بنا حتّى نقف بازاء الجبل ونقع على الطريق، فقمنا وسرنا وإذا بحائط في وجوهنا فأخذنا في غير تلك الجهة فإذا بحائط آخر، وهكذا من أربع جوانبنا.
فجلسنا وجعلنا نبكي على أنفسنا ثمّ قلت لصاحبي: ائتنا من هذا الحنظل لنأكله، فأتى به فإذا هو أمرّ من كل شيء، وأقبح، فرمينا به، ثمّ لبثنا هنيئة وإذا قد استدار من الوحش ما لا يعلم إلا الله عدده، وكلما أرادوا القرب منا منعهم ذلك الحائط، فإذا ذهبوا زال الحائط، وإذا عادوا عاد.
قال: فبتنا تلك الليلة آمنين حتّى أصبحنا، وطلعت الشمس واشتد الحر
وأخذنا العطش فجزعنا أشد الجزع، وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالأمس، فلما أرادا مفارقتنا قلنا له: بالله عليك إلا أوصلتنا إلى أهلنا.
فقال: ابشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما.
ثمّ غابا. فلما كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا، ومعه ثلاث أحمرة، قد أقبل ليحتطب فلما رآنا ارتاع منا وانهزم، وترك حميره فصحنا إليه باسمه، وتسمينا له فرجع وقال: يا ويلكما إن أهاليكما قد أقاموا عزاءكما، قوما لا حاجة لي في الحطب.
فقمنا وركبنا تلك الأحمرة، فلما قربنا من البلد، دخل أمامنا، وأخبر أهلنا ففرحوا فرحا شديدا وأكرموه وخلعوا [(وفي نسخه (وأخلعوا)] عليه.
فلما دخلنا إلى أهلنا سألونا عن حالنا، فحكينا لهم بما شاهدناه، فكذبونا وقالوا: هو تخييل لكم من العطش.
قال محمود: ثمّ أنساني الدهر حتّى كأن لم يكن، ولم يبق على خاطري شيء منه حتّى بلغت عشرين سنة، وتزوجت وصرت أخرج في المكاراة ولم يكن في أهلي أشد مني نصبا لأهل الإيمان، سيما زوار الأئمة عليهم السلام بسر من رأى فكنت أكريهم الدواب بالقصد لأذيتهم بكل ما أقدر عليه من السرقة وغيرها، وأعتقد أن ذلك مما يقربني إلى الله تعالى.
فاتفق أني كريت دوابي مرة لقوم من أهل الحلة، وكانوا قادمين إلى الزيارة منهم ابن السهيلي وابن عرفة وابن حارب، وابن الزهدري، وغيرهم من أهل الصلاح، ومضيت إلى بغداد، وهم يعرفون ما أنا عليه من العناد، فلما خلوا بي من الطريق وقد امتلاؤا عليّ غيظاً وحنقاً لم يتركوا شيئاً من القبيح إلا فعلوه بي وأنا ساكت لا أقدر عليهم لكثرتهم، فلما دخلنا بغداد ذهبوا إلى الجانب الغربي فنزلوا هناك، وقد امتلأ فؤادي حنقاً.
فلما جاء أصحابي قمت إليهم، ولطمت على وجهي وبكيت، فقالوا: مالك؟ وما دهاك؟ فحكيت لهم ما جرى عليّ من اولئك القوم، فأخذوا في سبّهم ولعنهم وقالوا: طب نفساً فانا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا، ونصنع بهم أعظم مما صنعوا.
فلما جنّ الليل، أدركتني السعادة، فقلت في نفسي: إن هؤلاء الرفضة لا يرجعون عن دينهم، بل غيرهم إذا زهد يرجع إليهم، فما ذلك إلا لأن الحق معهم فبقيت مفكرا في ذلك، وسألت ربي بنبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أن يريني في ليلتي علامة أستدل بها على الحق الذي فرضه الله تعالى على عباده.
فأخذني النوم فإذا أنا بالجنة قد زخرفت، فإذا فيها أشجار عظيمة، مختلفة الألوان والثمار، ليست مثل أشجار الدنيا، لأن أغصانها مدلاة، وعروقها إلى فوق، ورأيت أربعة أنهار: من خمر، ولبن، وعسل، وماء، وهي تجري وليس لها جرف [(الجرف بالضم وبضمتين ما تجرفته السيول، وأكلته من الأرض، ومنه المثل ( فلان يبني على جرف هار، لا يدري ليل من نهار) وجمعه أجرف، ويقال للجانب الذي أكله الماء من حاشيه النهر ايضا، أو بصمتين، فكأنه أراد أن تلك الأنهار كان لها جداول مستويه وكانت المياه تجري فيها مملوءه، بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت، ولم تقع فيها) بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت، ورأيت نساء حسنة الأشكال ورأيت قوماً يأكلون من تلك الثمار، ويشربون من تلك الأنهار، وأنا لا أقدر على ذلك، فكلما أردت أن أتناول من الثمار، تصعد إلى فوق، وكلما هممت أن أشرب من تلك الأنهار، تغور إلى تحت، فقلت للقوم: ما بالكم تأكلون وتشربون؟ وأنا لا أطيق ذلك؟
فقالوا: إنك لم تأتِ (وفي نسخه لا تأتي) إلينا بعد.
فبينا أنا كذلك وإذا بفوج عظيم.
فقلت: ما الخبر؟
فقالوا: سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام قد أقبلت، فنظرت فإذا بأفواج من الملائكة على أحسن هيئة، ينزلون من الهواء إلى الأرض، وهم حافون بها، فلما دنت وإذا بالفارس الذي قد خلصنا من العطش بإطعامه لنا الحنظل، قائما بين يدي فاطمة عليها السلام فلما رأيته عرفته، وذكرت تلك الحكاية، وسمعت القوم يقولون: هذا م ح م د بن الحسن القائم المنتظر، فقام الناس وسلموا على فاطمة عليها السلام.
فقمت أنا وقلت: السلام عليك يا بنت رسول الله.
فقالت: وعليك السلام يا محمود أنت الذي خلصك ولدي هذا من العطش؟
فقلت: نعم، يا سيدتي.
فقالت: إن دخلت مع شيعتنا أفلحت.
فقلت: أنا داخل في دينك ودين شيعتك، مقر بإمامة من مضى من بنيك، ومن بقي منهم.
فقالت: أبشر فقد فزت.
قال محمود: فانتبهت وأنا أبكي، وقد ذهل عقلي مما رأيت فانزعج أصحابي لبكائي، وظنوا أنه مما حكيت لهم، فقالوا: طب نفسا فوالله لننتقمنّ من الرفضة فسكت عنهم حتّى سكتوا، وسمعت المؤذن يعلن بالأذان، فقمت إلى الجانب الغربي ودخلت منزل اُولئك الزوار، فسلمت عليهم.
فقالوا: لا أهلاً ولا سهلاً اخرج عنّا لا بارك الله فيك.
فقلت: إني قد عدت معكم، ودخلت عليكم لتعلموني معالم ديني، فبهتوا من كلامي.
وقال بعضهم: كذب، وقال: آخرون جاز أن يصدق. فسألوني عن سبب ذلك، فحكيت لهم ما رأيت، فقالوا: إن صدقت فانا ذاهبون إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، فامض معنا حتّى نشيعك هناك.
فقلت: سمعا وطاعة.
وجعلت أقبل أيديهم وأقدامهم، وحملت أخراجهم وأنا أدعو لهم حتّى وصلنا إلى الحضرة الشريفة، فاستقبلنا الخدام، ومعهم رجل علوي كان أكبرهم، فسلموا على الزوار فقالوا له: افتح لنا الباب حتّى نزور سيدنا ومولانا، فقال: حبا وكرامة، ولكن معكم شخص يريد أن يتشيع، ورأيته في منامي واقفا بين يدي سيدتي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، فقالت لي: يأتيك غدا رجل يريد أن يتشيع فافتح له الباب قبل كل أحد، ولو رأيته الآن لعرفته.
فنظر القوم بعضهم إلى بعض متعجبين، فقالوا: فشرع ينظر إلى واحد واحد فقال: الله أكبر هذا والله هو الرجل الذي رأيته.
ثمّ أخذ بيدي فقال القوم: صدقت يا سيد وبررت، وصدق هذا الرجل بما حكاه، واستبشروا بأجمعهم وحمدوا الله تعالى.
ثمّ إنه أدخلني الحضرة الشريفة، وشيعني وتوليت وتبريت.
فلما تم أمري قال العلوي: وسيدتك فاطمة تقول لك: سيلحقك بعض حطام الدنيا فلا تحفل به، وسيخلفه الله عليك، وستحصل في مضايق فاستغث بنا تنج.
فقلت: السمع، والطاعة، وكان لي فرس قيمتها مائتا دينار فماتت وخلف الله عليّ مثلها، وأضعافها، وأصابني مضايق فندبتهم ونجوت، وفرج الله عني بهم، وأنا اليوم اُوالي من والاهم، واُعادي من عاداهم، وأرجو بهم حسن العاقبة.
ثمّ إني سعيت إلى رجل من الشيعة، فزوجني هذه المرأة، وتركت أهلي فما قبلت أتزوج منهم، وهذا ما حكا لي في تاريخ شهر رجب (سنة) ثمان وثمانين وسبعمائة هجرية، والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمّد وآله.
* * *
(قصة محمود الفارسي)
حدث السيد المعظم المبجل، بهاء الدين عليّ بن عبد الحميد الحسيني النجفي النيلي المعاصر للشهيد الأول في كتاب الغيبة عن الشيخ العالم الكامل القدوة المقرئ الحافظ، المحمود الحاج المعتمر شمس الحق والدين محمّد بن قارون قال: دعيت إلى امرأة فأتيتها وأنا أعلم أنها مؤمنة من أهل الخير والصلاح فزوّجها أهلها من محمود الفارسي المعروف بأخي بكر، ويقال له ولأقاربه بنو بكر، وأهل فارس مشهورون بشدة التسنن والنصب والعداوة لأهل الإيمان، وكان محمود هذا أشدهم في الباب، وقد وفقه الله تعالى للتشيع دون أصحابه.
فقلت لها: واعجباه كيف سمح أبوك بك؟ وجعلك مع هؤلاء النواصب؟ وكيف اتفق لزوجك مخالفة أهله حتّى يرفضهم؟
فقالت: يا أيها المقرئ إن له حكاية عجيبة إذا سمعها أهل الأدب حكموا أنها من العجب.
قلت: وما هي؟
فقالت: سله عنها سيخبرك.
قال الشيخ: فلما حضرنا عنده قلت له: يا محمود، ما الذي أخرجك عن ملة أهلك، وأدخلك مع الشيعة؟
فقال: يا شيخ لما اتضح لي الحق تبعته، اعلم أنه قد جرت عادة أهل الفرس [(الظاهر أنه بالفتح، موضع الهذيل أو البلد من بلدانهم كما في القاموس منه رحمه الله. أقول: بل هو بالضم لما سبق قبل الأسطر بقوله: ( وأهل فارس مشهورون بشده التسنن والنصب والعداوه). (الظاهر أنها بالفتح وتوجد حاليا منطقه بين بغداد وسامراء تعرف بهذا الأسم، والظاهر أنها المقصوده )] أنهم إذا سمعوا بورود القوافل عليهم، خرجوا يتلقونهم، فاتفق أنّا سمعنا بورود قافلة كبيرة، فخرجت ومعي صبيان كثيرون وأنا إذ ذاك صبي مراهق، فاجتهدنا في طلب القافلة، بجهلنا، ولم نفكر في عاقبة الأمر، وصرنا كلما انقطع منا صبي من التعب خلوه إلى الضعف، فضللنا عن الطريق، ووقعنا في واد لم نكن نعرفه، وفيه شوك، وشجر ودغل، لم نر مثله قط فأخذنا في السير حتّى عجزنا وتدلت ألسنتنا على صدورنا من العطش، فأيقنا بالموت، وسقطنا لوجوهنا.
فبينما نحن كذلك إذا بفارس على فرس أبيض، قد نزل قريبا منا، وطرح مفرشاً لطيفاً لم نر مثله تفوح منه رائحة طيبة، فالتفتنا إليه وإذا بفارس آخر على فرس أحمر عليه ثياب بيض، وعلى رأسه عمامة لها ذؤابتان، فنزل على ذلك المفرش ثمّ قام فصلى بصاحبه، ثمّ جلس للتعقيب. فالتفت إلي وقال: يا محمود!
فقلت: بصوت ضعيف: لبيك يا سيدي.
قال: ادن مني.
فقلت: لا أستطيع [(هذا هو الظاهر، والنسخه (لم أستطع). منه رحمه الله)] لما بي من العطش والتعب.
قال: لا بأس عليك.
فلما قالها حسبت كأن قد حدث في نفسي روح متجددة، فسعيت إليه حبوا فمر (فأمر ظ) يده على وجهي وصدري ورفعها إلى حنكي فرده حتّى لصق بالحنك الأعلى ودخل لساني في فمي، وذهب ما بي، وعدت كما كنت أولا.
فقال: قم وائتني بحنظلة من هذا الحنظل.
وكان في الوادي حنظل كثير فأتيته بحنظلة كبيرة فقسمها نصفين، وناولنيها وقال: كل منها فأخذتها منه.
ولم أقدم على مخالفته وعندي (أي وعندي من العقيده والنظر أنه أمرني أن آكل الصبر) أمرني أن آكل الصبر لما أعهد من مرارة الحنظل فلما ذقتها فإذا هي أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأطيب ريحا من المسك شبعت ورويت.
ثمّ قال لي: ادع صاحبك.
فدعوته، فقال بلسان مكسور ضعيف: لا أقدر على الحركة.
فقال له: قم لا بأس عليك.
فأقبل إليه حبوا وفعل معه كما فعل معي ثمّ نهض ليركب، فقلنا: بالله عليك يا سيدنا إلا ما أتممت علينا نعمتك، وأوصلتنا إلى أهلنا.
فقال: لا تعجلوا وخط حولنا برمحه خطة، وذهب هو وصاحبه.
فقلت لصاحبي: قم بنا حتّى نقف بازاء الجبل ونقع على الطريق، فقمنا وسرنا وإذا بحائط في وجوهنا فأخذنا في غير تلك الجهة فإذا بحائط آخر، وهكذا من أربع جوانبنا.
فجلسنا وجعلنا نبكي على أنفسنا ثمّ قلت لصاحبي: ائتنا من هذا الحنظل لنأكله، فأتى به فإذا هو أمرّ من كل شيء، وأقبح، فرمينا به، ثمّ لبثنا هنيئة وإذا قد استدار من الوحش ما لا يعلم إلا الله عدده، وكلما أرادوا القرب منا منعهم ذلك الحائط، فإذا ذهبوا زال الحائط، وإذا عادوا عاد.
قال: فبتنا تلك الليلة آمنين حتّى أصبحنا، وطلعت الشمس واشتد الحر
وأخذنا العطش فجزعنا أشد الجزع، وإذا بالفارسين قد أقبلا وفعلا كما فعلا بالأمس، فلما أرادا مفارقتنا قلنا له: بالله عليك إلا أوصلتنا إلى أهلنا.
فقال: ابشرا فسيأتيكما من يوصلكما إلى أهليكما.
ثمّ غابا. فلما كان آخر النهار إذا برجل من فراسنا، ومعه ثلاث أحمرة، قد أقبل ليحتطب فلما رآنا ارتاع منا وانهزم، وترك حميره فصحنا إليه باسمه، وتسمينا له فرجع وقال: يا ويلكما إن أهاليكما قد أقاموا عزاءكما، قوما لا حاجة لي في الحطب.
فقمنا وركبنا تلك الأحمرة، فلما قربنا من البلد، دخل أمامنا، وأخبر أهلنا ففرحوا فرحا شديدا وأكرموه وخلعوا [(وفي نسخه (وأخلعوا)] عليه.
فلما دخلنا إلى أهلنا سألونا عن حالنا، فحكينا لهم بما شاهدناه، فكذبونا وقالوا: هو تخييل لكم من العطش.
قال محمود: ثمّ أنساني الدهر حتّى كأن لم يكن، ولم يبق على خاطري شيء منه حتّى بلغت عشرين سنة، وتزوجت وصرت أخرج في المكاراة ولم يكن في أهلي أشد مني نصبا لأهل الإيمان، سيما زوار الأئمة عليهم السلام بسر من رأى فكنت أكريهم الدواب بالقصد لأذيتهم بكل ما أقدر عليه من السرقة وغيرها، وأعتقد أن ذلك مما يقربني إلى الله تعالى.
فاتفق أني كريت دوابي مرة لقوم من أهل الحلة، وكانوا قادمين إلى الزيارة منهم ابن السهيلي وابن عرفة وابن حارب، وابن الزهدري، وغيرهم من أهل الصلاح، ومضيت إلى بغداد، وهم يعرفون ما أنا عليه من العناد، فلما خلوا بي من الطريق وقد امتلاؤا عليّ غيظاً وحنقاً لم يتركوا شيئاً من القبيح إلا فعلوه بي وأنا ساكت لا أقدر عليهم لكثرتهم، فلما دخلنا بغداد ذهبوا إلى الجانب الغربي فنزلوا هناك، وقد امتلأ فؤادي حنقاً.
فلما جاء أصحابي قمت إليهم، ولطمت على وجهي وبكيت، فقالوا: مالك؟ وما دهاك؟ فحكيت لهم ما جرى عليّ من اولئك القوم، فأخذوا في سبّهم ولعنهم وقالوا: طب نفساً فانا نجتمع معهم في الطريق إذا خرجوا، ونصنع بهم أعظم مما صنعوا.
فلما جنّ الليل، أدركتني السعادة، فقلت في نفسي: إن هؤلاء الرفضة لا يرجعون عن دينهم، بل غيرهم إذا زهد يرجع إليهم، فما ذلك إلا لأن الحق معهم فبقيت مفكرا في ذلك، وسألت ربي بنبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أن يريني في ليلتي علامة أستدل بها على الحق الذي فرضه الله تعالى على عباده.
فأخذني النوم فإذا أنا بالجنة قد زخرفت، فإذا فيها أشجار عظيمة، مختلفة الألوان والثمار، ليست مثل أشجار الدنيا، لأن أغصانها مدلاة، وعروقها إلى فوق، ورأيت أربعة أنهار: من خمر، ولبن، وعسل، وماء، وهي تجري وليس لها جرف [(الجرف بالضم وبضمتين ما تجرفته السيول، وأكلته من الأرض، ومنه المثل ( فلان يبني على جرف هار، لا يدري ليل من نهار) وجمعه أجرف، ويقال للجانب الذي أكله الماء من حاشيه النهر ايضا، أو بصمتين، فكأنه أراد أن تلك الأنهار كان لها جداول مستويه وكانت المياه تجري فيها مملوءه، بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت، ولم تقع فيها) بحيث لو أرادت النملة أن تشرب منها لشربت، ورأيت نساء حسنة الأشكال ورأيت قوماً يأكلون من تلك الثمار، ويشربون من تلك الأنهار، وأنا لا أقدر على ذلك، فكلما أردت أن أتناول من الثمار، تصعد إلى فوق، وكلما هممت أن أشرب من تلك الأنهار، تغور إلى تحت، فقلت للقوم: ما بالكم تأكلون وتشربون؟ وأنا لا أطيق ذلك؟
فقالوا: إنك لم تأتِ (وفي نسخه لا تأتي) إلينا بعد.
فبينا أنا كذلك وإذا بفوج عظيم.
فقلت: ما الخبر؟
فقالوا: سيدتنا فاطمة الزهراء عليها السلام قد أقبلت، فنظرت فإذا بأفواج من الملائكة على أحسن هيئة، ينزلون من الهواء إلى الأرض، وهم حافون بها، فلما دنت وإذا بالفارس الذي قد خلصنا من العطش بإطعامه لنا الحنظل، قائما بين يدي فاطمة عليها السلام فلما رأيته عرفته، وذكرت تلك الحكاية، وسمعت القوم يقولون: هذا م ح م د بن الحسن القائم المنتظر، فقام الناس وسلموا على فاطمة عليها السلام.
فقمت أنا وقلت: السلام عليك يا بنت رسول الله.
فقالت: وعليك السلام يا محمود أنت الذي خلصك ولدي هذا من العطش؟
فقلت: نعم، يا سيدتي.
فقالت: إن دخلت مع شيعتنا أفلحت.
فقلت: أنا داخل في دينك ودين شيعتك، مقر بإمامة من مضى من بنيك، ومن بقي منهم.
فقالت: أبشر فقد فزت.
قال محمود: فانتبهت وأنا أبكي، وقد ذهل عقلي مما رأيت فانزعج أصحابي لبكائي، وظنوا أنه مما حكيت لهم، فقالوا: طب نفسا فوالله لننتقمنّ من الرفضة فسكت عنهم حتّى سكتوا، وسمعت المؤذن يعلن بالأذان، فقمت إلى الجانب الغربي ودخلت منزل اُولئك الزوار، فسلمت عليهم.
فقالوا: لا أهلاً ولا سهلاً اخرج عنّا لا بارك الله فيك.
فقلت: إني قد عدت معكم، ودخلت عليكم لتعلموني معالم ديني، فبهتوا من كلامي.
وقال بعضهم: كذب، وقال: آخرون جاز أن يصدق. فسألوني عن سبب ذلك، فحكيت لهم ما رأيت، فقالوا: إن صدقت فانا ذاهبون إلى مشهد الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، فامض معنا حتّى نشيعك هناك.
فقلت: سمعا وطاعة.
وجعلت أقبل أيديهم وأقدامهم، وحملت أخراجهم وأنا أدعو لهم حتّى وصلنا إلى الحضرة الشريفة، فاستقبلنا الخدام، ومعهم رجل علوي كان أكبرهم، فسلموا على الزوار فقالوا له: افتح لنا الباب حتّى نزور سيدنا ومولانا، فقال: حبا وكرامة، ولكن معكم شخص يريد أن يتشيع، ورأيته في منامي واقفا بين يدي سيدتي فاطمة الزهراء صلوات الله عليها، فقالت لي: يأتيك غدا رجل يريد أن يتشيع فافتح له الباب قبل كل أحد، ولو رأيته الآن لعرفته.
فنظر القوم بعضهم إلى بعض متعجبين، فقالوا: فشرع ينظر إلى واحد واحد فقال: الله أكبر هذا والله هو الرجل الذي رأيته.
ثمّ أخذ بيدي فقال القوم: صدقت يا سيد وبررت، وصدق هذا الرجل بما حكاه، واستبشروا بأجمعهم وحمدوا الله تعالى.
ثمّ إنه أدخلني الحضرة الشريفة، وشيعني وتوليت وتبريت.
فلما تم أمري قال العلوي: وسيدتك فاطمة تقول لك: سيلحقك بعض حطام الدنيا فلا تحفل به، وسيخلفه الله عليك، وستحصل في مضايق فاستغث بنا تنج.
فقلت: السمع، والطاعة، وكان لي فرس قيمتها مائتا دينار فماتت وخلف الله عليّ مثلها، وأضعافها، وأصابني مضايق فندبتهم ونجوت، وفرج الله عني بهم، وأنا اليوم اُوالي من والاهم، واُعادي من عاداهم، وأرجو بهم حسن العاقبة.
ثمّ إني سعيت إلى رجل من الشيعة، فزوجني هذه المرأة، وتركت أهلي فما قبلت أتزوج منهم، وهذا ما حكا لي في تاريخ شهر رجب (سنة) ثمان وثمانين وسبعمائة هجرية، والحمد لله رب العالمين والصلاة على محمّد وآله.
* * *
تعليقات
إرسال تعليق
أضف تعليقاً