الإعداد الروحي لعصر الظهور .

التزكية والعُجب: 
أهل البيت عليهم السلام أكدوا أن هذا الأمر أمر طبيعي وفطري في الإنسان، ولا يُعد ذلك العمل شيئاً يستحق من الإنسان أن يعجب بنفسه، لماذا؟ لأن الإنسان في صدد أن يرجع إلى إنسانيته، أهل البيت عليهم السلام يبسّطون الأمر لنا لكي يخرجونا من الرياء، أكدوا عليهم السلام أن عملية التزكية والسير إلى الله إنما هي عملية بسيطة، وليس هناك داع أن يشعر الإنسان بعجب أو يرائي الناس، وإنما هي قضية من قبيل أن يقع إنسان في الوحل فيسرع إلى داره يغسل بدنه ويرجع كما كان، هل هذه قضية يمكنه أن يفتخر بها؟
أو يقول للناس أنظروا ذهبت إلى الحمام! ليس في هذا شيء يستحق الفخر، بل بالعكس حينما يكون الإنسان قد رجع إلى حقيقته وغسل الأدران عن نفسه يكون قد أخذ وضعه الطبيعي ولا يحتاج أن يرائى أحد، أو أن يشعر أن له فضلاً على أحد من الناس.
ومع الأسف هناك الكثير ممن يلزم نفسه ببرامج التزكية يشعر بالعجب، فيرى لنفسه فضلاً على الآخرين، ودالة على الله نفسه، هذا في الواقع هلاك، بدل أن يخرج هذا نفسه من حفرة الاستكبار يطمس نفسه ويغرق نفسه في وحل التكبر والعجب.
الإمام دائماً عندما يرشد أصحابه إلى التزكية يرشدهم إليها بهذا الشكل، ارجع إلى فطرتك، إلى ذاتك، إلى حقيقتك، نظّف نفسك لا أكثر، فالإنسان الذي ينظّف نفسه ليس له أن يرائي، ولا هناك داع بأن يعجب بنفسه، هذه هي الحقيقة التي يجب أن ندركها دائماً، حينما يوفّق أحدنا لصلاة الليل، ويوفّق للصوم وللصدقة، ومجاهدة النفس، يعني يوفّق للتزكية بشكل عام عليه أن يتواضع أمام الله عز وجل وأن يكون خائفاً وخجلاً من ربه، ما هذه الأوساخ التي لحقت بي؟ أحتاج إلى عمر طويل حتّى أغسلها عن نفسي.
مع الأسف بعض من الناس عندما يصلي صلاة الليل أو غيرها من الأعمال يتوقع من الناس أن يسلّموا عليه أو يقبّلوا يده وما إلى ذلك، ما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ كونك بدأت بتزكية نفسك ولا فخر في ذلك، أن يكون الإنسان قد بدأ ينظّف نفسه من الأدران، ينبغي لنا أن نلتفت إلى هذه الجهة، محور أساسي من محاور طريقة أهل البيت عليهم السلام في التزكية التنبيه على هذه المسألة: أن التزكية تنقية للأدران عن النفس وإرجاعها إلى الفطرة وإلى القلب الناصع، فإذاً ليس هناك داع للرياء. ولا للتكبر ولا للشعور بالأفضلية على أحد.
أحد المراجع جاءه بعض الطلبة فجلس عنده، وجاء جماعة إلى المرجع من منطقة في العراق وطلبوا من السيد المرجع بأننا نريد عالماً يصلي بنا جماعة ويعلمنا الأحكام، يقول هذا الطالب: المرجع نظر إليّ وقال: تعال إلى جنبي، ثمّ قال: هل يمكنك أن تذهب معهم إلى منطقتهم تصلي بهم جماعة وتعلمهم الأحكام؟ وكنت طلبة في بداية حياتي ولا أتقن هذه الأمور بشكل جيد، قلت: سيدنا أنا أخاف من الرياء ومن العجب، أجابني السيد بجواب نفعني إلى منتهى حياتي (الرجل عندما قصّ لي هذه القصة كان عمره ٧٠ سنة، عالم جليل ووكيل لكل المراجع) يقول: سمعت هذا الكلام وأنا شاب وتربيت بهذه الكلمة.
يقول: قال لي: هذا العمل (أيّ صلاة الجماعة وتعليم الأحكام) لا يستوجب العُجب ولا الرياء وإنما هي صلاة كما تصلي في بيتك، صلّي بهم جماعة، فالأمر لا يستحق أن تكبّره بهذه الدرجة.
يقول: أرجعني إلى حقيقة أن العمل الذي نعمله جداً يسير ولا يستحق من الإنسان أن يرائي أو يعجب به.
نقول إذاً: موضوع التزكية بالضبط هكذا، فهو ليس أمراً يستحق العُجب ولا التكبّر، بل هو أمر يستحق التخفّي وليس الرياء، فهو يحتاج إلى التخفّي أكثر من الاظهار، كما قلنا أن الإنسان يغتسل لإزالة الأوساخ عن بدنه، فهل هذا يحتاج إلى الاظهار، هكذا يجب أن نتعامل مع أدراننا وعيوبنا.
بعض من الناس يمارسون أعمال رياضية روحية، فعندما يذهبون إلى مكان ما لا يأكلون من طعام الناس، هذا في الواقع خروج عن حدود الشرع وإيذاء للمؤمنين من حيث لا يشعرون، إنهم يقعون في خطأ وفي ذنب إيذاء المؤمن، اذهب وكُلْ ولا عليك أن تسأل من أين أتيت بهذا الطعام، نعم إلا إذا كان الإنسان من غير المسلمين.
فإذاً لاحظوا برنامج أهل البيت عليهم السلام الذي هو برنامج الفطرة، ففيه لا
يقع الإنسان في حيرة ومشاكل، بل بالعكس يأخذه أخذاً لطيفاً سمحاً يوصله إلى الغاية، ويصبح الإنسان صاحب ذوق وصاحب أخلاق مع الناس.
أما الأساليب الأخرى التي فيها التعقيد والالتواء ففي الواقع تشكل عداوات بين الناس وتنفر الآخرين منه، لأنه في الواقع يجرح ذاك ويؤلم قلب هذا ويصدم ذاك، وبالنتيجة هو يظن بأنه سائر إلى الله وإذا به يؤذي الناس ويجمع عداوات دون أن يشعر، لكن السالك في طريق أهل البيت عليهم السلام يجمع محبة القلوب إلى رضا الله تعالى (كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً حببونا إلى الناس ولا تبغّضونا إليهم). [(وسائل الشيعه/ الحر العاملي ٨:١٢/ ح٨/ ١٥٥٠٢؛ بحار الأنوار/المجلسي ٣٤٨:٧٥)]
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام يمشي ومعه جماعة يسكب ماء إلى جنبهم واحد من جماعة أمير المؤمنين يقول: يا مولاي هذا الماء نجس يدير له أمير المؤمنين وجهه ويقول: (وما عليك الا تكون قد سألت وقد نظرت...) لماذا تسأل (كل شيء لك طاهر حتّى تعلم بنجاسته) نحن غاية ما نصله من الإيمان أن نلتزم بأوامر الله.
الله عز وجل (هكذا قال): (آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) ما علمت أنه نجس طهّره، وما لم تعلم لا تسأل، أما بهذا التشدد يبتعد المرء عن الله ويقترب من الشيطان.
لاحظوا الرواية: شخص جلس عند الإمام الصادق عليه السلام فذكر سيرة رجل فقال: فلان عاقل، فقال له الإمام: (وأيّ عقل له وهو يطيع الشيطان)، يقول: استغربت، ذهبت إلى الرجل، فقلت له: ما هي قضيتك؟ ذكرتك عند
الإمام فقال فيك كذا، فتأسف وقال: نعم عندي وسواس بالطهارة مبتلى بالوضوء والصلاة، صدق الإمام الشيطان متسلط عليّ. [(أنظر النص في: الكافي/ الكليني ١٢:١/ ح١٠)]
إن مسألة تزكية النفس مسألة مصيرية بالنسبة لنا، فكما أن الإنسان يهتم ببدنه وأعضاء بدنه، ويقطع المسافات الطويلة طلباً للعافية وطلباً للأطباء الأفضل، ويصرف كل ما بوسعه لاجراء عملية أو شراء دواء، ينبغي له أن يشعر ويهتم أكثر بالنسبة إلى روحه وقلبه، طبعاً المسألة واضحة والفرق واضح.
البدن مهما جرى عليه ولحق به من أذىً وأمراض سينتهي ذلك بالوفاة. والوفاة بالنسبة إلى البدن هو أن ينزع الإنسان ذلك اللباس ويلقيه بعيداً، هذه هي الوفاة، البدن هو لباس لا أكثر، ثوب بال لحقه المرض، لحقه الشيب، فيرفعه الإنسان ويلقيه بعيداً.
فبعد الموت ينتهي الإنسان من مشاكل البدن وذلك المرض الذي كان يشعر به في الدنيا، لأن المرض كان متعلقاً بالبدن.
أما مشكلة الروح، فتعالوا لننظر إلى أن الأمراض التي تتعلق بالروح هل تغادرنا بعد الموت؟ الحسد والبغض وايذاء الآخرين هل تفارقنا بعد الموت؟ كلا، فإن هذه الصفات كلها تتعلق بالروح، والروح لا تموت وإنما تنتقل.
إنما يُنقلون من دار أعمال* إلى دار شقوة أو رشاد
ما يتعلق بالروح لا يزول، بل ينتقل معها إلى ذلك العالم، وأما ما يتعلق بالبدن فيزول وينحل بزوال وانحلال البدن.
فإذا كانت الروح على جانب من الصفاء والطهارة فإنها ستُبقي صاحبها سعيداً حتّى بعد الموت، وأما والعياذ بالله إذا كانت الروح فيها شيء من الرذائل فلن تترك الإنسان بعد الموت بل تبقى تنتقل معه كما هي، وتبقى عنصر ازعاج للإنسان في عالم الروح والبرزخ والآخرة. ولذلك نؤكد على علاج الروح أكثر من علاج البدن. لكن مع الأسف بعض البشر يتعاملون بشكل عكسي تماماً، لا نرى أحداً يقلق بأنه لماذا هو حسود مثلاً، أو أنه إنسان حقود، لا يقلق، ولا يذهب إلى طبيب نفساني ليعالج نفسه، بينما لو اكتشف أنه مريض في بدنه فماذا سيعمل؟ إنه سوف يسارع إلى الأطباء المتخصّصين، إذاً لا بدّ لنا وقبل أن ندخل في المراحل العملية لتزكية النفس والإعداد الروحي أن نلتفت جيداً إلى أهمية ذلك الأمر وخطورته، أخطر شيء في مستقبل الإنسان هو تلك الروح. أهم ما يحدد مصير الإنسان من حيث الجنّة والنار وأهم ما يحدد مكان الإنسان هو تلك الروح. وعلى هذا فمن لا يعتني بروحه ولا بقلبه فإنه إنسان غافل، غافل عن مصيره، وغافل عن مستقبله.
هذه كمقدمة يجب أن تكون واضحة.
بعد الموت ليس هناك تجربة أخرى وامتحان آخر، وليس هناك مجال أن نترجّى الله ونقول: ارجعنا إلى الدنيا مرة أخرى حتّى ندخل تجربة جديدة (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها). (المؤمنون: ٩٩ و ١٠٠)
هذا الكافر عندما يواجه مصيره يرى بأنه كم كان يجب عليه أن يتوجّه إلى روحه ويهتم بها لكنه لم يفعل، يتوسل بالله أن يُرجِعه، ولكن هيهات.
إذاً علينا أن ندرك ذلك من الآن ونحن أحياء، هذه نعمة من الله بأننا أحياء نسأل الله أن يبارك بهذه النعمة، الآن هؤلاء الأموات يغبطوننا على لحظة حياة، على النفس الواحد الذي يصعد وينزل، لماذا؟
لأننا قادرون بهذا النفس أن نكسب رضا الله عز وجل نفعل خيراً، نكتسب علماً، نمشي على طريق نجاة، هذه فرصة لا زالت مفتوحة أمامنا لاصلاح هذه النفس، فإن عالم البرزخ مستقبل قريب وليس ببعيد.
إذا أدركنا هذا الكلام وأصبح في نفوسنا حرصٌ على تزكية النفس علينا أن نبدأ الآن بالسؤال: ما الذي علينا فعله الآن إذاً؟
الجواب (مراحل التزكيه) في المنشور القادم إن شاء الله...
*     *     *

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

رقعة لقضاء الحاجة

دعاؤه عليه السلام في الصلوات على النبي وآله (عليهم السلام) .

دعاؤه عليه السلام في الشدائد والمهمات المسمى بدعاء العلوي المصري.